المنشوراتبحوث ودراسات

الأمن في العلاقات الدولية: بين التنظير والواقع الدولي

يرتبط مفهوم الأمن نظريا بمتغيرات عديدة؛ تتعلق في جانب منها بالنقاشات والحوارات النظرية في العلاقات الدولية، وفي جانب آخر بالتطورات والتحولات التي شهدتها البيئة الدولية، ما أدى إلى بلورت جملة من المفاهيم والنظريات الأمنية. وعليه يهدف المقال للتعريف بالأمن كما ورد ضمن نظريات العلاقات الدولية، إضافة إلى تقديم رؤية نقدية حول توظيف مفهوم الأمن في الواقع الدولي؛ أين انعكس على جوهر المفهوم وتحوله في بعض القضايا والأقاليم إلى حالة من اللاأمن، وهذا ما يجعل من مراجعة بعض المفاهيم الأمنية أمرا مُلحا وضروريًا.

الكلمات المفتاحية:

الأمن، نظريات العلاقات الدولية، النظام الدولي، العالم الثالث.

مقدمة

يعد مفهوم الأمن من المفاهيم الأكثر تداولا ودراسة في العلاقات الدولية، إلا أنه في ذات الوقت يثير الغموض في تفاصيله مما يستدعي البحث الدائم في التحولات التي تطرأ عليه تبعا للتحديات والرهانات التي تفرزها البيئة الدولية من جهة؛ ومن جهة أخرى تحول مفهوم التهديد من فترة زمنية لأخرى، ناهيك عن تأثير النقاشات النظرية في حقل العلاقات الدولية على المحددات الأساسية للمفهوم.

فالأمن كمفهوم شكل حيزا هاما من حقل العلاقات الدولية، كون هذه الأخيرة في جوهرها تقوم على ثنائية تعاون/صراع وأي منهما يشكل الأصل أو الاستثناء، وبناء على التصور المطروح يكون الهدف النهائي هو تحقيق الأمن والسلم الدوليين.

وعليه فالأصل في التنظير للأمن هو الوصول إليه كهدف، لكن الواقع الدولي لا يزال يشهد حالات عديدة للاأمن بمختلف قطاعاته ومستوياته، بل أكثر من ذلك فإن التركيز على مفاهيم أمنية معينة أدى لخلق أزمات وبروز نزاعات خاصة ما ارتبط بمفهوم الأمن الإنساني والأمننة…وغيرهما أين اعتمدوا كحجج وبراهين لشرعنة حق التدخل وتبرير سلوكيات وسياسات دول في أقاليم بأكملها.

تهدف هذه الدراسة للبحث في التحولات التي طرأت على مفهوم الأمن من حيث التنظير له، وعلاقة ذلك بالواقع الدولي في رؤية نقدية، وانطلاقا من ذلك نطرح الإشكالية التالية التي نصوغها في سؤال محوري مفاده: كيف وظف مفهوم الأمن في حقل العلاقات الدولية نظريا وعمليا؟

استناداً على الإشكالية المطروحة تم وضع الفرضيتين التاليتين:

– أن التنظير للأمن في العلاقات الدولية يهدف لتأمين أمن طرف محدد حسب اتجاه كل منظر

– كلما تعاظم هاجس الأمن لدى الدول والأفراد كلما أدى لمزيد من اللاأمن.

المطلب الأول: مفهوم الأمن:

لغويا الأمن في اللغة العربية من الفعل الثلاثي أمِن أي حقق الأمان، و قال ابن منظور: “أمنت فأنا آمن، وأمنت غيري من الأمن والأمان، والأمن ضد الخوف، والأمانة ضد الخيانة، والإيمان ضد الكفر، والإيمان بمعنى التصديق، وضده التكذيب، فيقال آمن به قوم وكذب به قوم”[1]. وفي التنزيل العزيز جاء في سورة قريش الآيتين 3 و 4: “الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف” وهذه الآية تضم المعنى الحديث للأمن وفق ما جاءت به مدرسة كوبنهاغن كما سنرى لاحقا، التحرر من الحاجة والخوف.

أما فياللغة الإنجليزيةتشير كلمة secure آمن إلى معاني متعددة منها عدم الشعور بالقلق، أو الشك، أو انعدام احتمال الضياع أو الفشل أو حتى الحصول على ضمانات معينة، كما تشير أيضا أن يكون لديك شيء محمي غير قابل للسقوط أو الانكسار، وفي أحيان أخرى قد يشير ذات المصطلح إلى معاني الحصول على شيء ما[2]. وعليه يشير مفهوم الأمن Security في اللغة الإنجليزية إلى الحرية أو الحماية من الخطر أو القلق، ويستخدم للإشارة إلى تدابير لضمان سلامة البلد أو الشخص أو الشيء أو القيم[3].

يفرق بعض الدارسين بين مفهومين للأمن أحدهما إيجابي والآخر سلبي، أما السلبي فيشير إلى: “الأمن من” (التهديد)، والأمن الإيجابي على أنه: “الأمن إلى” أو التمكين[4].

غالبا ما يرتبط الأمن السلبي بالأمن التقليدي الذي يجد جذوره في القضايا الأمنية التي تكون الدولة محورها وأداة قياسها الجيش. وبناء على أعمال Paul Roe, Bill McSweeney, Rita Floyd, Kirsti Stuvoy, Gunhild Hoogensen Gjorv فإن الأمن الإيجابي يعالج الثغرات المهمة التي لا يعالجها الأمن السلبي، ويطالب بفحص كيفية إنتاج الأمن: من؟ (الجهات الفاعلة)، كيف؟ (طبيعة ممارسة الأمن)، أين؟ (سياق الممارسة الأمنية)، لماذا؟ (القيم الكامنة وراء هذه الممارسات) فضلا عن ما هو الأساس المعرفي الذي يغذي هذا الفهم للأمن؟[5]

يعد كل من  Paul Roe, Bill McSweeney أهم المساهمين في تطوير المعنى الإيجابي للأمن، أين يدَّعي McSweeney أن الأمن الإيجابي يركز على الاحتياجات البشرية، وهذا ما يعكسه مفهوم الأمن الإنساني؛ الذي يركز على الفرد بدلا من الدولة كمرجع أمني. أما Roe فأدعى أن الأمن الإيجابي له تطبيق يتجاوز مجرد الاحتياجات الفردية، وينبغي تطبيقه على الدولة أيضا، ويجب أن يستند لقيم العدالة في تحديده[6].

أورد الباحثين والسياسيين والقادة العسكريين تعاريف عديدة للأمن اختلفت حسب تصورات كل منهم؛ مصالحهم؛ الظروف العامة وغير ذلك، وفيما يلي سنورد بعض التعاريف على سبيل المثال لا الحصر:

حسب أرلوند ولفرز A. Wolfers الأمن بالمعنى الموضوعي يشير إلى عدم وجود تهديدات للقيم المكتسبة، وبالمعنى الذاتي غياب الخوف من تعرض هذه القيم للهجوم[7]. ويتفق معه في ذلك ولتر ليبمان Walter Lippmamm بقوله: “أن الأمة تبقى في وضع آمن إلى الحد الذي لا تكون فيه عرضة لخطر التضحية بالقيم الأساسية إذا كانت ترغب في تفادي وقوع الحرب، وتبقى قادرة لو تعرضت للتحدي على صون هذه القيم عن طريق انتصارها في حرب كهذه”[8].

ويمكن تعريف الأمن كحاجة as a need بثلاث طرق مختلفة: أولا: وصف الأمن باعتباره حاجة أو ضرورة للحماية والدفاع ضد الأخطار الخارجية، ثانيا: الأمن المطبق كحاجة للاستمرارية والنظام، ثالثا: تفسير الأمن على أنه محاولة لتحقيق التوازن العقلي الداخلي[9].

في ظل تكاثف العلاقات وترابطها في العصر الراهن لم يعد الأمن يعني غياب التهديد عنك فحسب، وإنما غياب التهديد عن الكل، فلا يمكن ضمان أمنك في ظل حرمان الآخر منه، ومثال ذلك ما يحدث حاليا في المتوسط؛ فالتهديدات الأمنية التي تشهدها الضفة الجنوبية من المتوسط (نزاعات، انعدام الاستقرار، مستويات تنمية متدنية) كان وسيكون لها تأثيرها وانعكاسها على أمن دول شمال المتوسط، وكذلك هو الحال مع التهديدات البيئية والأوبئة التي تنعكس على كامل المعمورة.

هناك مجموعة من الملاحظات وجب الانتباه إليها فيما ارتبط بمفهوم الأمن:

-المفاهيم المقدمة هي انعكاس لتصورات مفكر/باحث أو جماعة علمية حسب انتماءاته الفكرية وميولاته الأيديولوجية وبيئته العلمية دون إغفال الفترة الزمنية.

– مفهوم الأمن من أكثر المفاهيم حساسية وتعقيدا في العلاقات الدولية لارتباطه بقضايا ومجالات متعددة، كما أنه مفهوم نسبي فما يعد تهديدا لدى طرف قد يكون غير ذلك لدى طرف آخر، فقد يتم توصيف حالة معينة أو سلوك على أنه مشكلة أمنية خاصة على مستوى الخطاب السياسي فقط قصد تهميش المعارضين الأيديولوجيين[10].

-الدول تهتم بأمنها بما يتوافق ومصالحها وضمان بقاءها.

-تغير مفهوم الأمن من فترة لأخرى حسب طبيعة التهديد* وتطور الفواعل على مستوى العلاقات الدولية.

-الأمن هو شعور ذاتي أو موقف حسب تصور الفرد.

المطلب الثاني: الأمن في نظريات العلاقات الدولية:

يعد موضوع الأمن من المواضيع الدارجة بقوة ضمن نظريات العلاقات الدولية، وإن لم يكن الحديث عنه بصورة مباشرة في العديد منها إلا أنه كان هدفا تنشده كل نظرية؛ فالنظرية الواقعية رسخت مفهوم الأمن الوطني من منطلق اعتبار الدولة الوحدة الأساسية للتحليل في العلاقات الدولية، في حين أسس التيار الليبرالي للأمن الجماعي اعتمادا على أهمية وفاعلية المنظمات والمؤسسات الدولية، ومع تنامي تيار ما بعد الحداثة والدراسات النقدية أخذ مفهوم الأمن أبعادا جديدة واعتمد وحدات تحليلية أخرى إلى جانب الدولة، خاصة مع أعمال مدرسة كوبنهاغن، ناهيك عن تأثير مسلمات النظرية البنائية ومفاهيمها المتمحورة حول القيم، المعايير، الخطاب والهوية في وضع تصورات مغايرة كتهديد للأمن، حيث لم يعد الأمن محتكرا من قبل أكاديمي العلاقات الدولية فحسب وإنما امتد ليشمل كل الفروع والمجالات العلمية، وأكثر من ذلك صارت الدراسات الأمنية تشكل بذاتها حقلا معرفيا مستقلا.

الأمن ضمن التيار الواقعي في العلاقات الدولية:

 تأثر مفهوم الأمن ضمن هذا التيار خاصة في شقه التقليدي بالطريقة التي يميل بها السياسيون إلى استخدام الكلمة؛ أي تقريبا مرادفا للسلطة العسكرية، فأمن الدولة مرتبط بحجم قوتها العسكرية، والأمن الدولي مرتبط بالتوازن العسكري، فاعتبرت الدولة المرجع الأساسي للأمن وأعطيت مكانة كبيرة لمفهوم الأمن القومي أو الوطني[11].

هذه النظرة الدولاتية إن صح التعبير لمفهوم الأمن مردُّها إلى خصائص النظام الدولي آنذاك (من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى ثمانينات القرن العشرين) طبيعة النزاعات، طبيعة التهديدات، ناهيك عن سيطرة مسلمات النظرية الواقعية على حقل العلاقات الدولية بما في ذلك الدراسات الأمنية، والتي نوجزها في النقاط التالية[12]:

-فوضى النظام الدولي؛ أين تغيب عنه سلطة مركزية جماعية.

-تطور الدول قدراتها العسكرية للدفاع أو لزيادة تأثيرها على الآخرين، فالأمن مشتق من القوة.

-عدم الثقة، الشك والريبة عوامل هامة في وضع الاستراتيجيات، وفقل لمبدأ “كل لنفسه”، فالأمن معطى ناذر وكل دولة تكافح من أجل البقاء، لذا تعمل على الحصول على أمن موازي على الأقل للدول الأخرى.

-الدولة فاعل وحيد/أساسي* وعقلاني وبالخصوص في القضايا الأمنية.

-الدولة أنشئت من أجل أمن مواطنيها؛ فمصدر التهديد لكليهما يكمن في البيئة الدولية.

أما بالنسبة لخصائص النظام الدولي والتي انعكست على تعريف الأمن ضمن البراديم الواقعي نوردها كما يلي:

-نظام وستفالي قائم على أولوية الدولة بقاءها واستمرارها.

-صراع بين القوى المركزية سواء التقليدية (القوى الأوروبية) أو الحديثة (الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي) إما بصورة مباشرة أو عن طريق الوكالة.

-أدوات الصراع مادية بالدرجة الأولى وتقوم على إلحاق الضرر المادي بالآخر.

 وعليه فأحداث الحرب الباردة خاصة في نصفها الأول انعكست بشكل كبير على طبيعة الدراسات الأمنية آنذاك، أين طغى مفهوم الأمن الوطني في صورته المرتبطة بالدولة بشكل أساسي، وذلك كنتيجة لهاجس الحرب النووية، ما جعل من القضايا الأمنية الأخرى تبدو أقل شأنا منها.

فالواقعيون لم يعمدوا بصورة مباشرة إلى تعريف الأمن، إلا إنهم اعتبروه غاية تنشدها الدول في ظل نظام دولي ميزته الأولى الفوضى، وهو ما أشار إليه ادوارد هاليت كار من خلال كتابه “أزمة العشرين سنة” أين اعتقد أن التفكير الطوباوي* كان أساسا للأمن الجماعي بعد الحرب العالمية الأولى التي أدت إلى حرب عالمية ثانية، فحسبه التفاؤل بالأمن الجماعي جعل البلدان تتجاهل مبدأ مساعدة الذات self-help مما أدى لتهديد أمن العديد من البلدان، فعصبة الأمم القائمة على الأمن الجماعي لها جذورها في سوء تفسير تطلعات القوى الكبرى، فلا يمكن للدول أن تثق بالآخرين إلا نفسها فيما يتعلق بالقضايا الأمنية[13]

وحسب كار فإن استخدام القوة دائما ما يخلق دافعا نَهماً لدى مستخدمها لزيادة قدرته إلى أقصى حد… والصراعات التي بدأت ذات مرة لكسب الأمن وضمانه، تتحول إلى صراعات عنف وأنانية[14].

قدم الواقعيون تفسيرات لانعدام الأمن فنجد ذلك في كتابات ثيوسيديس Thucydides الذي أرجع ذلك إلى الخوف الذي يجلب الشعور بعدم الأمان، فأكد على التهديدات الأمنية العسكرية فحسب، واعتبر أن الدولة القوية يمكنها بسهولة التلاعب بسلوك الدولة الأضعف، وحتى تكون الدولة قوية تحتاج إلى زيادة القدرات الداخلية، اكتساب القوة الاقتصادية والدخول في تحالفات مع البلدان ذات المصالح المتجانسة[15].

على عكس ذلك جادل هانز مورغنتاو بأن رغبات الدول في تحقيق القوة وتعزيزها لها جذورها في طبيعة الجنس البشري (الطبيعة الشريرة)، في حين أكد ولتز على مساعدة الذات كأولوية لكل دولة من خلال توفير وسائل حماية نفسها من الآخرين لضمان البقاء. وبعكس ما تقدم به ولتز فإن الواقعيين الهجوميين وعلى رأسهم الباحث جون ميرشايمر اعتبروا أن الشعور بالأمن ضد العدو لا يكفي لتوفير البقاء لجميع الدول في ظل نظام فوضوي، وعليه فعلى كل دولة البحث عن الفرص لإضعاف أعدائها، فذلك ما سيزيد من قوتها الذاتية، ولذلك أكد جون ميرشايمر على ضرورة تحقيق الهيمنة؛ فمن خلال هذا الأخير يمكن ضمان البقاء وليس اعتمادا على توازن القوى[16].

الأمن ضمن التيار الليبرالي في العلاقات الدولية:

نتيجة التحولات التي شهدها النظام الدولي مع سبعينات القرن الماضي بتنامي المؤسسات والمنظمات الدولية سواء الدولية أو الإقليمية، ذات الطابع الاقتصادي أو السياسي، الحكومية منها والغير حكومية، مع التركيز على أهمية التعاون الدولي وتأثير تشابك العلاقات الاقتصادية وتنامي الاعتماد المتبادل في التخفيف من حدة الصراع، ولهذا ركز أصحاب هذا الاتجاه على دور وأهمية المنظمات الدولية، واعتبر التهديد كل ما من شأنه تقييد الحرية الفردية، وبالتالي فالقيم المهمة هي الفردية، المساواة، الحرية والديمقراطية.

ساهم هذا الطرح في بلورت مفاهيم من قبيل الأمن المشترك Comman Security الذي صاغه Egon Bahr وصدر في عام 1982 ضمن تقرير لجنة الأمن المشترك التي أوصت في ظل الفوضى ومستويات التسلح العليا بضرورة ضبط النفس المتبادل والتقدير المناسب لحقائق العصر النووي، إذ يمكن أن يؤدي السعي وراء الأمن إلى انخفاض الأمن لجميع المعنيين، وهكذا تم تصور الأمن المشترك كطريقة لحل المعضلة الأمنية[17].

وحسب مفكري هذا التيار فإن التركيز على الأمن العسكري من شأنه تقويض الأمن الاقتصادي للدول، وفي التنافس الأمريكي السوفياتي أثناء الحرب الباردة مثالا واضحا عن ذلك، أين انعكس سباق التسلح بين الدولتين إلى انهيار هذا الأخير اقتصاديا، وغالبا ما يؤدي الانهيار الاقتصادي إلى عدم الاستقرار السياسي. ولذلك يجادل الليبراليون بأن قوة الترابط الاقتصادي بين الدول يشكل صمام آمان أمام القضايا النزاعية وحالات الصدام.

فالليبراليون في نظرتهم للنظام الدولي على أنه شبكة عنكبوتية* انعكس على تصورهم لمفهوم الأمن، فنجدهم يميلون أكثر إلى التأكيد على الأمن الجماعي والأمن الدولي والجماعات الأمنية**، نتيجة لتنوع الجهات الفاعلة إلى جانب الدولة كالشركات المتعددة الجنسيات، الجماعات العرقية…وغيرهم، وكذا لإيمانهم بقدرة الدول على تحقيق السلام من منطلق التعاون؛ فالإنسان بطبعه خير ويميل للتعاون.

يعتبر جوزيف ناي وروبرت كيوهان من أهم كتاب هذا التيار وقد بينا من خلال مؤلفهما “القوة والاعتماد المتبادل” أن الفاعلين الجدد لا يقلون أهمية عن الدول في تحليل العلاقات الدولية، ويعتقدون أن النزاعات والقضايا الأمنية ستأخذ شكلا جديدا، فيصفون الحقبة الجديدة بأنها عصر الاعتماد المتبادل الذي يقوم على قاعدتين أساسيتين هما الانجراحية vulnerability والحساسية sensitivity.

ويقصد بالانجراحية قدرة الدول على إجراء تعديلات فعالة على التغييرات التي تحدث خلال فترة زمنية. في حين تدور الحساسية حول قدرة الدول على الاستجابة للتغييرات، فهي تكشف كيف ستؤدي التغييرات في بلد ما أو النظام الدولي إلى تغييرات باهضة التكلفة في بلد آخر؛ فضلا عن حجم آثار التغييرات[18].

في جزئية أخرى قدم جوزيف ناي مفهوم القوة الناعمة soft power ضمن مؤلفه الموسوم بـ: “القوة الناعمة” وعرفها: “بأنها القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلا من الإرغام ودفع الأموال، فهي تنشأ من جاذبية ثقافة بلد ما، ومثله السياسة وسياساته”[19] ، وهي لا تشير إلى الإقناع وقوة الحجة وإن كانت تتضمنه وإنما القدرة على الجذب المؤدي للإذعان[20].

ما يميز القوة الناعمة* أنها لا تنتمي إلى الحكومة ولا يمكن للحكومة السيطرة عليها بنفس الدرجة التي تتمتع بها القوة الصلبة[21]، وهذه صفة يمكن أن نجدها أيضا في أبعاد الأمن التي برزت بشكل واضح بعد الحرب الباردة خاصة فيما ارتبط بالأمن الإنساني، الأمن المجتمعي، الأمن البيئي، الأمن الشامل …الخ فهي أُمون تحقيقها يتطلب تعاضد مختلف الفواعل، ولا يمكن فيها لحجم القوة العسكرية للدول أن يحسم وجودها من عدمه، كما أنها تتجاوز مفهومي الحدود والسيادة، فلا يمكن الجزم بأن إقليم ما هو في حالة أمان مطلق، وذلك راجع إلى بروز تهديدات ذات طابع مشترك تهدد الإنسانية جمعاء، وبذلك لم يعد الأمن من اختصاص الدولة ويتوقف عندها فحسب، وإنما امتد ليشمل جهات مغايرة ومجالات أخرى بخلاف العسكرية.   

ويفترض في الأمن التعاوني Co-operative أن الجهات الفاعلة لا تتنافس على الأمن ولكن بسبب التشاركية-التبادلية- mutuality، يتعاونون على المستويات الإقليمية وعلى مستوى الدول وكذا على المستويات الدنيا لتجنب المواجهة والصراع بين الدول في نهاية المطاف. وحسب Cohen الأمن التعاوني كنموذج يرسخ المفهوم المركزي للأمن الفردي ضمن دروع متحدة للأمن الجماعي، الدفاع الجماعي وتعزيز الاستقرار. وقد بين Prantl في دراسة له أدوار المنظمات الدولية وأهميتها المستقبلية المتزايدة لتعزيز قطاعات الأمن الناعم[22].

الأمن ضمن النظرية البنائية في العلاقات الدولية:

تُشبَّه النظرية البنائية في العلاقات الدولية بمثابة الجسر الذي يربط بين الوضعيين التفسيريين (الواقعية والليبرالية) والما بعد الوضعيين التأمليين (ما بعد الحداثة باتجاهاتها المختلفة)، فحاولت أن تكون منطقية علمية في تصوراتها مع التأكيد على أهمية القيم والمعايير والأفكار والخطاب في تفسير ظواهر العلاقات الدولية وفهم سياسات الدول.

ففي مقال ألكسندر وندت الشهير الموسوم بـ: “الفوضى هي ما تصنعه الدول: البناء الاجتماعي لسياسات القوة” 1992 بين من خلاله أن سلوكيات الدول وأفعالها هي من انتاجها بناء على أفكارها وافتراضاتها وليس معطى مسبق، ومن هنا فإن معاني الأمن والمنظمات تختلف باختلاف المواقف، فليس لديها معاني خالدة وغير مشروطة. وقد قدم ذات الكاتب شروحات مستفيضة حول ذلك من خلال كتابه الموسوم بـ “النظرية الاجتماعية للسياسة الدولية” 1999 بين من خلال أمثلة واقعية أن الأمن لا يرتبط بحجم القدرات بقدر ما يتعلق بطبيعة العلاقة التي تجمع الطرفين عدو أو صديق أو منافس[23]، فحتى الخوف وعدم الأمان أو العداء التي تعتبرها الواقعية أجزاء أساسية من الطبيعة البشرية، حسب وندت ما هي إلا نتائج لحاجات لم تتحقق؛ لذلك فهي اعتمادية ومشروطة وليست أصيلة أو جوهرية في الطبيعة البشرية، فالخوف والقلق يتم تشكيلهما اجتماعيا والقلق المصاحب لعدم تحقيق الحاجات هو جزء من الطبيعة البشرية[24].

كما أن العلاقات التاريخية بين الدول تلعب دورا في تشكيل النوايا ومن ثم السلوكات، وبما أن التاريخ مؤسس جزئيا على المصالح الحقيقية للآخرين، فإن توزيع المصالح يجب أن يؤدي دورا مستقلا في تشكيل معنى الفوضى، ومعنى توزيع القوة[25].

وفي جزئية أخرى ذات علاقة بالأمن بين وندت أن العلاقة بين القوى المادية والأفكار تعمل في اتجاهين؛ كل يؤثر في الآخر، وأوضح ذلك بقوله أن الحقيقة المادية لألمانيا مثلا تفيد أن قوتها العسكرية أكبر من الدنمارك، مما يفرض قيودا مادية على السياسة الخارجية الدنماركية تجاه ألمانيا، ولكن هذه القيود سوف تكون عديمة المعنى والدلالة إذا كانت ألمانيا والدنمارك لم تفكرا في حرب بينهما[26].

إذا حسب وندت المعضلة الأمنية والحروب هي نتيجة تنبؤات تقوم بها الدول، وسياسات الثقة المتبادلة يمكن أن تخلق بنية المعرفة المشتركة التي ستقود فيها الدول نحو الأمن، فالسياسة الدولية ليست مجرد مجالا للأمن ولكنها مجال للتفاهم، والأمن يكتسب معنى في ظل ظروف تفهمها الدول من بيئتها التي تتصرف فيها وتشكل المعنى الذي تعطيه للفوضى[27].

الأمن ضمن التيار ما بعد الحداثي

تضمن هذا التيار تحت طياته الدراسات التي تعنى بالتشكيك في الحقائق القائمة وتقويض البديهي والبحث فيما وراء الظاهر وفقا مرتكزات ما بعد الوضعية، فجاءت النظرية النقدية ونظرية الجندر باتجاهاتهم المختلفة لتعطي تصورا مغايرا لمفهوم الأمن يختلف عن ما قدمته النظريات التفسيرية بشقيها الواقعي والليبرالي، فتوسع مفهوم الأمن ليشمل مضامين جديدة من خلال اضافة قضايا مثل البيئة والاقتصاد وحتى الصحة والثقافة وما ارتبط بها من مفاهيم الحضارة، القيم والهوية.

كما تم الاشارة أعلاه فإن هذا التيار ينطوي تحته مجموعة من النظريات والمدارس والمقاربات، إلا أنني سأكتفي هنا بمساهمات النظرية النقدية* باعتبارها الأكثر تأثيرا في حقل العلاقات الدولية، ويعتبر روبرت كوكس أحد أبرز منظريها أشار إلى أن النظريات تتشكل لغرض ولصالح شخص ما، لذلك فإن المفاهيم الواقعية مثل الأمن والفوضى والبقاء هي انعكاسات لظروف زمانهم، وهي مفاهيم لها معانى مختلفة لأشخاص مختلفين وفي ظروف مختلفة[28].

واستنادا عليه يجادل Linklater بأن التحرر الحقيقي في علاقات الدول يشير إلى إضعاف الدول

ذات السيادة والحدود فيما بينها، أي إضعاف الأهمية الأخلاقية والمعنوية لحدود الدول ذات السيادة[29].

ضمن النظرية النقدية برز اتجاهين في الدراسات الأمنية، ركز الاتجاه الأول على مفهوم الانعتاق والاتجاه الثاني الأمننة ضمن ما عرف بمدرسة كوبنهاغن.

الأمن ضمن تصورات مدرسة كوبنهاغن:

تعد هذه المدرسة حامل لواء الدراسات الأمنية الحديثة، من أهم باحثيها Barry Buzan, Ole Waever, Jaap De Wilde ساهمت هذه المدرسة في إدخال مفاهيم أمنية أخرى.

بحث أول ويفر ومدرسة كوبنهاغن في المفهوم السلبي المفرط للأمن (فحص عمليات الأمننة) في حين ركز Ken Booth و Richard Wyn Jones والمدرسة الويلزية Welsh School على المفهوم الإيجابي المفرط للأمن (الأمن كانعتاق أو تحرر)[30].

ويشير الانعتاق emancipation إلى تحرير الأمم من العوامل التي تمنعهم من القيام بحرية بما تريد القيام به، وحسب K. Booth: “الانعتاق هو تحرير الناس (أفراد وجماعات) من القيود المادية والبشرية التي تمنعهم من القيام بما يختارون القيام به بحرية…الأمن والانعتاق وجهان لعملة واحدة. الانعتاق، وليس السلطة أو النظام من ينتج الأمن الحقيقي، فالانعتاق من الناحية النظرية هو الأمن”[31].

بحث باري بوزان في مفهوم الأمن المجتمعي أين اعتبر أن الدولة هي المصدر الأساسي للاأمن الأفراد خاصة في دول العالم الثالث، وهو ما ذهب إليه أول ويفر بقوله أن المجتمع صار مهدد أكثر من الدولة[32]، وحسب بوزان قد يصل اللاأمن إلى حدوث ما أسماه بالمعضلة الأمنية المجتمعية*. وبهذا نقل مفهوم الأمن من بقاء الدول إلى بقاء الأفراد والشعوب.

كما حدد بوزان مستويات وقطاعات الأمن؛ فأشار إلى النظام العالمي كأعلى مستوى، ثم المستوى الإقليمي باعتباره مستوى فرعي من المستوى السابق، ليليه المستوى الثالث الذي يضم وحدات شبيهة بالدول، دول، وشركات عبر وطنية، وفي المستوى الرابع توجد مجموعات منظمة داخل هذه الوحدات؛ وهي تحاول التأثير على سلوك الأفراد، وآخر مستوى ممثلا في الأفراد كمستوى خامس من الأمن. أما عن قطاعات الأمن فذكر القطاع السياسي، العسكري، المجتمعي، الاقتصادي والبيئي[33].

يعتبر مفهوم أو نظرية الأمننة Securitization Approach (1998 التطوير الكامل للنظرية) العمل الأكثر تميزا ضمن انجازات هذه المدرسة، أين تم استخدامها لشرح قضايا مختلفة بما في ذلك الإرهاب والصراع العنيف، التدخل وتغير المناخ والهجرة وقضايا الأقليات والتهديدات الوبائية.

ولتحليل كيفية بناء القضايا الأمنية تركز نظرية الأمننة على الأفعال المبنية على خطاب speech acts النخب السياسية، فحسبها يتم ترتيب القضايا حسب الأولوية وبناءها على أنها تهديدات أمنية من خلال أفعال الكلام، حيث يقنع الفاعل الأمني الجمهور بأن قضية معينة تشكل تهديدا وجوديا لفاعل مرجعي referent object يجب حمايته، فبمجرد أن يتم أمننة قضية ما؛ فإنها تصبح الأولوية القصوى، ويتم إضفاء الشرعية على الإجراءات الاستثنائية ضد هذا التهديد[34]

اعتمد هذا الأسلوب كثيرا في تبرير تدخلات القوى الغربية في عديد الدول، ما جعل من الأمن مفهوما هلاميا يمكن أن يشمل أي قضية كانت، وهذا ما عبر عنه علماء هذه المدرسة بقولهم أن الأمننة هي نسخة متطرفة من التسييس[35]. إذ تعتبر القضايا غير المسيسة خارج النقاش السياسي العام، في حين أنها تصبح جزء منه بمجرد تسييسها، وبالتالي فعندما يتم أمننة القضايا فإنها تندرج في فئة خاصة من التهديدات الوجودية، ويتم إعطاء أولوية لها بسبب الافتراض أنه ما لم يتم التعامل معها فإن الفواعل المرتبطة بها في خطر وجودي، مع ضرورة التأكيد أن إضفاء الطابع الأمني على قضية ما يعيق النقاش السياسي العام لأن المجال الأمني له تصور ووسائل وديناميكيات خاصة به[36].

فالأمن حسب هذا التصور مبني ذاتيا وفق الخطاب السائد، وعليه فإن الأمن واللاأمن حالتان يرتبطان بفحوى الخطاب السائد ولا يتعلقان بوجود مادي للتهديد، وهذا ما يتجسد في طيف عدو- صديق- منافس، وهو ما تركز عليه النظرة البنائية في تصورها وفهمها لواقع العلاقات الدولية.

من خلال كل ما تقدم اتضح تأثير التطور النظري على مستوى العلاقات الدولية على مواضيع الدراسات الأمنية وبروز قضايا أمنية جديدة، فمن سباق التسلح والحد من التسلح والانتشار النووي؛ صار الحديث عن الصحة العالمية والأمن الصحي (خاصة مع الجائحة الأخيرة كوفيد 19)، الأمن السيبراني (حروب G5, G6)، الأمن البيئي (الاحتباس الحراري، توسع مناطق الجفاف، التلوث…)، الأمن الإنساني (اللاجئين، المهاجرين، المشتتين)، الحروب الأهلية وانعكاساتها على الأمن الدولي والإقليمي على حد سواء.

المطلب الثالث: الأمن ضمن الواقع الدولي هدف أم وسيلة: رؤية نقدية

اعتبر الأمن على مر الزمن هدفٌ تسعى له كل الفواعل سواء كانت دول، أفراد أو جماعات، وإن اختلفوا في طبيعة التهديد ووسائل مجابهته، إلا أنه مع التحولات التي شهدها النظام الدولي مع أواخر القرن الماضي صار الأمن يشكل وسيلة أيضا للنفاذ إلى أقاليم وتبرير التدخل في الشؤون الداخلية للدول، تحت مسميات تنوعت حسب الظرف وطبيعة المصلحة؛ فالدول ترى أن أمنها يمتد حيث يوجد أي خطر من شأنه أن يهدد وجودها وبقاءها بغض النظر عن أمن غيرها، ومثل هكذا تفسيرات اعتمدت عليها الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول في تبرير سياساتها واستراتيجياتها الدولية، فاعتمدت على حجة منع انتشار أسلحة الدمار الشامل في احتلالها للعراق 2003، وحماية حقوق الإنسان وفرض القيم الديمقراطية في التدخل الغربي في سوريا وليبيا 2011، ناهيك عن مجموع العقوبات والضغوطات الاقتصادية التي تفرضها على دول وتكون تبعاتها على شعوب بأكملها كما هو الحال مع إيران وملفها النووي، وكذا الصين وروسيا وغيرهم.

من جانب آخر التهديدات الأمنية كالهجرة غير شرعية مثلا أو حتى الإرهاب يتم التعامل معها حسب الظرف، فلم تُعامل كتهديدات أمنية وجب القضاء عليها لتحقيق الأمن، وإنما كوسيلة يتم توظيفها حسب المصلحة والحاجة، وهو ما لمسناه في التوظيف السياسي للتهديدات الأمنية في المواسم الانتخابية لكسب التأييد أو الإطاحة بالخصم، كما هو حال ملف الهجرة مع اليمين المتطرف في أوروبا مثلا، أو حتى في الخطاب الأمريكي خاصة مع الرئيس السابق دونالد ترامب، ناهيك عن توظيف ذلك في مزايدات ومفاوضات سياسية.

في نظرة أخرى لو جادلنا اعتمادا على التصور البنائي أن مفهوم الأمن هو بناء اجتماعي، فأمن الدول يختلف حسب تصور كل مجتمع، فلماذا إذا نشير للأمن على أنه مفهوم عالمي وهو ذاته للجميع؟ –والكلام ينطبق على مفاهيم أخرى كالديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرهما- فكما لا وجود لقيم عالمية فلا وجود لمفاهيم عالمية بما في ذلك مفهوم الأمن.

فما يصور لنا على أنه أمن عالمي في حقيقة الأمر هو أمن القوى المسيطرة والمهيمنة في سعيها لضمان بقاءها، وهذا الأخير مرهون في النهاية بخلق حالة من اللا أمن في أقاليم بعينها بحكم شدة التنافس الدولي. وعليه فالأمن مفهوم نسبي يرتبط بادراك وتصورات وكذا مصالح وأهداف كل فاعل، وبناء على ذلك يمكن تفسير لماذا ينعدم الأمن في دول ومجتمعات دون أخرى خاصة في دول العالم الثالث؟

إن انعدام الترابط بين المجتمع والنظام السياسي المشكلين للدولة في دول العالم الثالث يقودنا لـ اللا أمن، فإن كان صانع القرار يربط قراراته بمصالح وتصورات فئة معينة دون المجتمع الكلي، فإن حالة الخلاف تكون واردة بقوة ويغيب الأمن والعكس صحيح.

وحسب  Bjorn Moller فإن المشاكل الأمنية في الجنوب تختلف اختلافا كبيرا عن تلك التي يعاني منها الشمال من عدة جوانب[37]:

-الصراع داخل الدول يبرز بشكل أكبر من التهديدات بين الدول.

-انخفاض مستوى الأمن السياسي بسبب انتشار الدول الضعيفة التي تتحول تدريجيا إلى دول فاشلة.

-يتم السعي غالبا وراء أمن النظام من خلال النفقات العسكرية الكبيرة، ومعظمها لأهداف داخلية.

-يميل مستوى العسكرة إلى فرض ضغوط كبيرة على القطاع المدني للاقتصاد، مما يعرض التنمية للخطر.

-يؤدي التخلف الاقتصادي إلى تفاقم الصراعات الطائفية.

فالأمن في سياق دول العالم الثالث يجب أن يشير إلى أكثر من مستوى الدولة والبعد العسكري، إلى النطاق الكامل لأبعاد وجود الدولة، فالعديد من دول العالم الثالث تجد نفسها مثقلة بالديون، والمشاكل البيئية، والهياكل الإدارية غير الفعالة، والانقسامات العرقية، والاقتصادات الضعيفة. فهل يمكن؛ وينبغي أن يفهم الأمن لمثل هذه الدول بنفس الطريقة التي يفهم بها أمن العالم المتقدم؟[38]

غالبا ما يرتبط الأمن في دول العالم الثالث بثنائية الدولة/الفرد وأيهما أهم أمن الأفراد أم أمن الدول؟ أم أنهما مفهومان متداخلان لا يمكن تحقيق أحدهما في ظل غياب الآخر؟

رغم أن الفرد شكل موضوعا مرجعيا لمفهوم الأمن، إلا أن الترجمة السياسية لهذا المفهوم أفرغته من قيمته، فمثلا ربط الأمن بخطر غياب الأمن في دول العالم الثالث انعكس بشكل كبير على أمن الفرد في هذه الدول، أين صار الفرد مضطر للتخلي عن حقوقه لصالح أمن الدول والأمن هنا يُعنى به عدم الدخول في الفوضى حيث الجميع يحارب الجميع.

هذا من جهة لكن إذا نظرنا للموضوع من زاوية أخرى نجد هذا التصور كان مقبولا جدا في المجتمع الغربي وتجسد في كتابات فلاسفة العقد الاجتماعي (كتابات توماس هوبز على الخصوص)، أين الفرد يتنازل عن حقوقه أو بعضها مقابل الأمن. وحاليا تفرض على دول العالم الثالث وهي دول فتية في معظمها إذا ما قورنت بالدول الغربية، ضرورة اتباع قيم سياسية وتدابير أمنية هي نتاج مخاضات اجتماعية وسياسية عاشتها المجتمعات الغربية دون غيرها، وتعتبر حفاظ هذه الدول على أمنها من باب تقييد للحريات وغيرها من المبررات.

خاتمة:

إن محاولة فهم الأمن في العلاقات الدولية يتطلب الإلمام بجميع الجوانب التنظيرية والعملية (الواقعية) لهذه الأخيرة، وذلك لصلته الوثيقة بجميع المجالات، فهو في الاقتصاد كما في السياسة، وفي الثقافة كما في المجتمع، وفي البيئة والتكنولوجيا وغيرها. إلا أنه وبالبحث الجيد في المفهوم يتضح جليا أن جوهره الإنسان، فهو من أجله وبه يتحقق، فإن صلح الإنسان (بكل ما تتضمنه كلمة “صَلُح” من معاني فلسفية وقيم دينية) تحقق الأمن.

 وهذا ما يترجمه الحوار النظري الفلسفي الذي يمثله محور خيِّر-شرير. إلا أن ذلك يطرح تساؤلات عديدة: من يحدد الخير والشر؟ وهل الخير والشر واحد لدى كل البشر؟ وهل يمكن تطبيق ذلك على الدول في سياساتها الداخلية وعلاقاتها الدولية؟ فهذه الأخيرة أي الدول يغلب عليها المنطق الواقعي القائم على العقلانية والمصلحة، وهو ما يجعل من الأمن بصفته صفة لصيقة بالدولة يستقي من خصائصها، فيصبح هو الآخر خاضع لحسابات المصلحة بعيدا عن جوهر معناه اللفظي أو اللغوي.

من خلال ما تقدم تم التوصل إلى الاستنتاجات التالية:

1ـ مفهوم الأمن اختلف حسب اختلاف تصور التهديد، وتختلف شدة التهديدات الأمنية حسب تصور كل فاعل.

2ـ سيطرة التنظير لأمن القوى الكبرى على الدراسات الأمنية مقابل قلة الدراسات التي تهتم بأمن الدول الضعيفة.

3ـ في ظل شدة التعقيد والترابط في العلاقات بين الدول، فإنه لا يمكن الجزم بأن تحقيق أمن دول دون غيرها هو أمر كافي.

أما فيما تعلق بأمن دول العالم الثالث فتم التوصل للاستنتاجات التالية:

-انعكس ارتباط بعض النخب في دول العالم الثالث بقوى غربية على أمن دولها، لأنه جعل هذا الأخير مرهون بمصالح القوى الغربية من جهة؛ ومصالح هذه النخب الممثلة في الاستمرار في السلطة من جهة أخرى، وهذا ما يجعل من أمن الدولة مجرد تصور طوباوي يخلفه أمن النظام (السلطة) كأولوية على أمن الفرد.

-أمن دول العالم الثالث مرتبط بالتنافس الدولي الراهن حول المكانة الدولية واعادة توزيع الأدوار.

-الأمن الانساني والمجتمعي ما هو إلا ذريعة وحجة للتدخل في الدول، وإلا بماذا نصف الازدواجية في التعاطي الغربي مع أقاليم دون غيرها؟

-عولمة مفهوم الأمن بمعنى جعل الحفاظ على الأمن من حق الجميع زاد من حالة اللاأمن، فكل طرف صار يحدد مدى أمنه حيثما تمتد مصلحته بغض النظر عن احترام المفاهيم السيادية الأخرى في العلاقات الدولية على رأسها مفهوم السيادة، فهذا الأخير يغيب الحديث عنه تماما إذا تعلق الأمر بمصلحة قوى كبرى. وإلا بماذا نفسر الدمار الذي لحق بسوريا بعد عام 2011 ومطالبة تركيا بمنطقة آمنة على الأراضي السورية لحماية أمنها هي؟ فأي منطق أمني يمكن أن نفسر من خلاله الضحايا المدنيين في حرب العراق، وسوريا واليمن وليبيا واقليم ناكورنو كاراباخ، والصومال؟ فحتى الأمن درجات وأولويات تختلف من مجتمع ودولة إلى أخرى ولا يمكن وضع مقاييس عالمية في ذلك ورسم أجندات لها.

الباحثة: د. لبنى جصاص

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، قسم العلوم السياسية، جامعة باجي مختار عنابة، الجزائر.

lobna.djessas@univ-annaba.dz

لتحميـل الدراسـة كاملـة


[1] – ابن منظور: لسان العرب، تحقيق عبد الله علي الكبير، القاهرة، دار المعارف، ص140.

[2]– Kalevi Mäkinen: Strategic Security, p. 88. https://helda.helsinki.fi/bitstream/handle/10138/19854/strategi.pdf.

[3]– Ibidem.

[4]– Gunhild Hoogensen Gjorv: Security by any other name: negative security, positive security, and a multi-actor

security approach, Review of International Studies, OCTOBER 2012, Vol. 38, No. 4, OCTOBER 2012, p.836.

[5]-Ibid, p. 837.

[6]–  Gunhild Hoogensen Gjorv, Op. Cit, p. 837.

[7] -Bjorn Moller: The Concept of Security: The Pros and Cons of Expansion and Contraction, Paper for joint sessions of the Peace Theories Commission and the Security and Disarmament Commission, the 18th General Conference of the International Peace Research Association (IPRA), Tampere, Finland, 5-9 August 2000,  p. 2.

https://www.peacepalacelibrary.nl/ebooks/files/370659244.pdf.

[8] – سليمان عبد الله الحربي: مفهوم الأمن: مستوياته وصيغه وتهديداته، المجلة العربية للعلوم السياسية، لبنان، مركز دراسات الوحدة العربية، العدد 19،2008، ص. 14.

[9]– Kalevi Mäkinen, p. 95.

[10]– Bjorn Moller, Op. Cit, p. 3.

*  عرف أولمان Ullman التهديد Threat سنة 1983على أنه: “عمل أو سلسلة أحداث يهددان بشدة وفي مدى قصير حالة الاستقرار في الدولة، أو يهددان بشكل ملحوظ من خلال التضييق من مدى أو حجم الاختيارات السياسية المتوفرة لدى حكومة الدولة، أو لدى الكيانات الغير حكومية، أو الوحدات الخاصة (أشخاص، مجموعات، شركات) ضمن الدولة”. من:

Peter Hough: Understanding global security, London, Routledge, 2004, p.7

[11]– Bjorn Moller, Op. Cit, p. 2.

[12]– Charles Philippe David, Jean Jacques Roche: Théories de la sécurité, Paris, Montchrestien, 2002, pp. 85-90.

*  الواقعية كبراديم في العلاقات الدولية يضم مجموعة من النظريات التي تتشارك في مجموعة من المسلمات وتختلف في بعض الجزئيات كنتيجة للتعديلات والتنقيحات التي تتناسب والتطورات التي يشهدها النظام الدولي. وعليه اعتبرت الواقعية التقليدية أو التاريخية بزعامة هانز مورغانتو أن الدولة هي الفاعل الوحيد في العلاقات الدولية، إلا أن الواقعية البنيوية بزعامة كينيت ولتز اعتبرت الدولة فاعل أساسي، وذلك بحكم بروز المؤسسات والمنظمات الدولية التي لعبت دورا بارزا مؤثرا في العلاقات الدولية، وارتكز ولتز في فهمه لسلوكيات الدول على مفهوم البنية –بنية النظام الدولي-.

*  الفكر الطوباوي يتجسد في مسلمات النظرية المثالية التي سادت خلال سنوات ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، أين ارتكزت على أهمية القانون، الضمير العالمي، الرأي العام في تجسيد السلام الدولي.

[13]– Fakhreddin Soltani, Mohammad Agus Yusoff: Concept of Security in the Theoretical Approaches, Research Journal of International Studies, October, 2012 , p. 8.

[14]– Amir Ullah Khan, Zafar Nawaz Jaspal: The Philosophical Foundation of the Realist Security Paradigm, The Dialogue, V. VIII, N. 4, p. 401.

[15]– Ibid, p. 399.

[16]– Fakhreddin Soltani, Mohammad Agus Yusoff, Op. Cit, p. 9.

[17]– Bjorn Moller, Op. Cit, p. 4.

* الواقعيون اعتبروا النظام الدولي بمثابة طاولة بليارد تتصارع فيه القوى وتتصادم على شاكلة كرات البليار، في حين صور الماركسيون باتجاهاتهم المختلفة (الماركسية، الماركسية الجديدة، التبعية) النظام الدولي باعتباره أخطبوط متعدد الرؤوس مع أطراف تمتص الثروة باستمرار من المناطق الهامشية الفقيرة والضعيفة إلى المناطق المركزية الغنية والقوية، واعتمدوا على مفهوم الطبقة في فهم العلاقات الدولية القائمة على الاستغلال.

**  الجماعة الأمنية: عرفها كارل دوتش بأنها: “مجموعة بشرية متكاملة ضمن نطاق جغرافي معين، تولد لديها شعور جماعي بأن المشاكل الاجتماعية يجب حلها؛ ويمكن حلها عبر عمليات التغيير السلمي من خلال إقامة مؤسسات وممارسات على درجة من القوة والاتساع تكفي للاعتماد عليها في هذا التغيير السلمي بين أفرادها”.من: سليمان عبد الله الحربي، مرجع سابق، ص. 26. فهي مجموعة من الدول تعمل على تطوير الحس التكاملي في المجال الأمني.

[18]– Fakhreddin Soltani, Mohammad Agus Yusoff, Op. Cit, p. 10.

[19] – جوزيف س. ناي: القوة الناعمة وسيلة النجاح في السياسة الدولية”، ت: محمد توفيق البجيرمي، السعودية، العبيكان، ط. 1، 2007، ص. 12.

[20] – المرجع السابق، ص. 26.

* وردت ملامح الأمن الناعم بشكل مناسب في تقرير Pursiainen 2001 حول “مشاكل الأمن الناعم في شمال غرب روسيا وتداعياتها على العالم الخارجي”.

[21]– Fakhreddin Soltani, Mohammad Agus Yusoff, Op. Cit, p. 10.

[22]– Francois Very: Revisiting  The Soft Security Debate: From European Progress To African Challenges, South African Journal of Military Studies, Vol 33, Nr 2, 2005, p. 27.

[23] – لمزيد من التفصيل حول محور صديق – عدو – منافس يرجى مطالعة الجزء الخاص بثلاث ثقافات للفوضى (لوك، هوبز، كانط) من كتاب: ألكسندر وندت: النظرية الاجتماعية للسياسة الدولية، ت. عبد الله جبر صالح العتيبي، جامعة الملك سعود، النشر العلمي والمطابع، 2006.

[24] – ألكسندر وندت، مرجع سابق، ص. 193.

[25] – المرجع السابق، ص. 163.

[26] – المرجع السابق، ص. 166.

[27]– Fakhreddin Soltani, Mohammad Agus Yusoff, Op. Cit, p.14.

* ركزت النظرية النقدية على الأسئلة المتعلقة بالثقافة والبيروقراطية والأساس الاجتماعي للسياسة الدولية، ولذلك يركزون على مفاهيم العقلانية والتحرر.

[28]– Fakhreddin Soltani, Mohammad Agus Yusoff, Op. Cit, p. 12.

[29]– Ibidem.

[30]– Gunhild Hoogensen Gjorv, Op. Cit, p. 837.

[31] -Kalevi Mäkinen, Op. Cit, p. 9.9

[32] – عبد النور بن عنتر: البعد المتوسطي للأمن الجزائري، الجزائر، المكتبة العصرية للطباعة والنشر والتوزيع، 2005، ص. 25.

*  تم طرح المعضلة الأمنية كمفهوم مع الواقعيين لتبرير انعدام الثقة بين الدول، وحسب ما تقدم به هيرز Herz تعني: حالة تؤدي فيها زيادة الأمن في دولة ما إلى الشعور بانعدام الأمن للآخرين، أنظر:

Fakhreddin Soltani, Mohammad Agus Yusoff, Op. Cit, p.8.                                                   

[33]– Kalevi Mäkinen, Op. Cit, p. 98.

[34]–  Başar Baysal:  20 Years of Securitization, Uluslararası İlişkiler / International Relations , Vol. 17, No. 67, 2020, p. 5.

[35]– Ibidem.

[36]– Ibid, p. 6.

[37]-Bjorn Moller, Op. Cit, p. 13.

[38]– Lloyd Pettiford: Changing Conceptions of Security in the Third World, Third World Quarterly, Vol. 17, No. 2 Jun., 1996, p. 294.

Admin

مجلة علمية دولية محكمة، ربع سنوية، يتم النشر فيها باللغات (العربية، التركية، الإنجليزية، الفرنسية). تقوم على نشر الدراسات العلمية والأوراق البحثية وأوراق السياسات، وكذلك نشر عروض وملخصات رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه حول العلاقات الدولية، وفروعها الأساسية، وما يرتبط بها من علوم ومعارف بينية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى