بحوث ودراسات

الخطاب التداولي الكروي: المنتخب المغربي في مونديال قطر نموذجاً

يُنسب أول توظيف لمفهوم الخطاب إلى مجال الرواية، حيث اعتبر الخطاب هو اللغة والنسيج اللذين يكونان الرواية، ثم فيما بعد انتقل المصطلح لمجال اللسانيات للدلالة على العلاقة بين البناء اللغوي والمعنى، حيث يكون من شأن تحليل الخطاب أن يتعقب جودة الترابط والتماسك بين أجزاء النص، كما أن الخطاب لم يكن منفصلا عن ما أفرزه التفكير الفلسفي من تصورات مختلفة حوله، أبرزها تصور فوكو الذي يرى أن العالم هو أكثر من مجرد مجرة من النصوص.

بل ثمة تداخل بين الخطاب والسلطة، ومن جهة أخرى ثمة وحدات للخطاب ترتبط بحسب قوانين التسلسل الحواري في خضوع تام لشروط الوضع الاجتماعي والأوضاع التداولية المختلفة[1].

لقد أدركت اللسانيات المعاصرة أهمية الخطاب ورصدت له جانبا مهما من دراستها ابتداء من دراسة الأفعال الكلامية مع فلاسفة اللغة العادية[2]، مرورا بنظريات الدلالة التصورية[3]، وصولا إلى لسانيات النص[4] التي تبنت جملة من الفرضيات الأساسية في نحو الجملة لصياغة نحو خاص بالجملة.

 ضمن هذه الورقة، سيتم التركيز على الاتجاه التواصلي للمنجز اللفظي (أو بالأحرى الدرجة الثالثة من درجات التداولية المرتبطة بأفعال الكلام)[5]. المعبر عنه في سياق كروي مناسباتي عالمي يتجاوز النسق المغلق (SYSTEME CLOS) المعزول عن قضايا السياق التواصلي، إلى نسق يستثمر ضمن الإطار التواصلي كل العناصر اللغوية والخارج لغوية لمقاربة الحدث في كل أشكاله وصوره وظروفه.

لقد كان للناخب المغربي “وليد الركراكي” إنتاج لغوي عبر – لفرط بسطاته وكثرة تداوله واستدعائه من التراث الشعبي وتمثلات العامة لمفهوم عامي- عن فعل كلامي حامل لمقوم مقاصدي مرفق بشحنة تحفيزية بالغة الدلالة والعمق جعلته خطابا ناجحا وفعالا.

 ونظرية فعل الكلام[6] الحاضرة في هذا النمط التداولي للغة[7]، تنطلق من مسلمة مفادها أن الأقوال الصادرة عن المتكلمين، ضمن وضعيات محددة، تتحول إلى أفعال ذات أبعاد اجتماعية. فاللغة ليست بنى ودلالات فقط، بل هي أيضا أفعال كلامية ينجزها المتكلم ليؤدي بها أغراضا، فهو عمل يطمح المتكلم من خلاله إلى إحداث تغيير معين في سلوك المخاطب بالفعل أو بالكلام.

وتقول أوركيوني في هذا الإطار:” إن الكلام بدون شك، تبادل للمعلومات، ولكنه أيضا إنجاز لأفعال مسيرة وفق مجموعة من القواعد (بعضها كلية، بحسب تعبير الفيلسوف الألماني هابرماس) من شأنها تغيير وضعية المتلقي وتغيير منظومة معتقداته و/أو وضعه السلوكي، وينجز عن ذلك أن فهم الكلام وإدراكه يعني تشخيص مضمونه الإخباري وتحديد غرضه التداولي، أي قيمته وقوته الإنجازية[8] ثم التأثيرية[9] .

 تبعا لذلك سيركز تناول هذا الموضوع على الإجابة عن الإشكالية التالية:

 هل كان لخطاب الناخب الوطني التلقائي والبسيط والغير الرسمي وقعه التأثيري في جمهور المتلقين؟ إن تحقق ذلك فبأي أسلوب، بأي خلفية وإمكانيات، وبأي سياق؟

هذا التحديد الإشكالي سيجيب عنه المقال وفق التقسيم الآتي:

الفقرة الأولى: الفعل اللغوي (Acte locutoire)

الفقرة الثانية: الفعل الإنجازي (Acte illocutoire).

الفقرة الثالثة: الفعل التأثيري (Acte perlocutoire)

الفقرة الأولى: الفعل اللغوي (Acte locutoire)

الفعل اللغوي أو اللفظي وهو المتألف من أصوات لغوية ضمن تركيب نحوي صحيح ينتج عنه المعنى الأصلي، وفي الخطاب الخاضع للدراسة نستحضر العبارة الأبرز فيه والأكثر تداولا وانتشارا “ديرو النية” بصيغة الأمر، لم تكن الجملة موجهة للاعبين فحسب، بل كررها الناخب الوطني على مسامع الإعلام العربي والمغربي عند مخطابته لجمهور المتلقين بتنوعهم، في دعوة منه إلى الثقة في قدراته وقدرات اللاعبين وفي اعداده للفريق واستعداداته الموجهة لتحقيق نتائج متقدمة، وكأنه يخاطب الطاقة الباطنية لتصدر مفعولها بكل إيجابية بعيدا عن لغة التشاؤم والاستسلام والخنوع والفشل، لقد مارس وليد الركراكي على جمهور المتتبعين طقسا من طقوس التنمية البشرية واستدرج الشعور الجمعي فيهم المؤمن بالوحدة والانتماء وحب الفريق والوطن في اتفاق تام حد الانصهار حول الحدث، غير مختلفين رغما وجهات النظر المتباينة بل والمتعارضة حول مسائل جوهرية أخرى.

فهل كان السر في المستعمل للعبارة أم في العبارة المستقاة في حد ذاتها والتي لا تكاد تفارق تعبيراتنا اللغوية اليومية؟

1. دلالة اللفظ لغويا واصطلاحا

 قبل تفكيك المعنى أو القصد من استحضار العبارة “ديرو النية”، نقف عند كونها مثلا وحكمة شعبية، والحكمة لطالما كانت تعبير ونتاج لتجربة شعبية وجزء من ملامح شعب وقسماته وأسلوب عيشه وأخلاقه ومعاييره[10]، وكذلك المثل كجملة موجزة محكمة البناء بليغة العبارة متوارثة شفهيا من جيل إلى جيل وشائعة الاستعمال لدى كل الطبقات[11]. لها تأثيرها الذي لا يستهان به في تحقيق نتائج غير متوقعة ولا متناهية المفعول لو حاولنا إدراكها بالتركيز عن جانب الشعور والوعي لما استقام لنا إتيان نفس النتائج.

حسب تعبير الفارابي المثل الشعبي: “هو ما تراضاه العامة والخاصة في لفظه ومعناه، حتى ابتذلوه فيما بينهم وفاهوا به في السراء والضراء، واستدروا به الممتنع من الدر، ووصلوا به إلى المطالب القصية، وتفرجوا به عن الكرب والمكربة، وهو من أبلغ الحكمة لأن الناس لا يجتمعون على ناقص. أو مقصر في الجودة أو غير مبالغ في بلوغ المدى في النفاسة”[12].

 الموسوعة البريطانية اعتبرته:” قول بليغ محكم يستخدم في نطاق عام، إذ أنه من التعبيرات المتداولة بين الناس، والأمثال جزء من أية لغة متكلمة وتعود لبعض أشكال الأدب التراثي (الفلكلوري) المتناقل شفاهة”[13].

 إذن. المثل حسب ما قيل هو قيمة خلقية مصطلح على قبولها، يمر قبل اعتماده وشيوعه عبر تمحيص وتدقيق شديدين بمعايير من وجهت إليه، وينم صراحة أو ضمنا عن هذه المعايير على كل صعيد. ومن ثم يبقى المثل وجه للأسلوب البياني البديع، يقرب المعاني إلى الأذهان ويؤثر في السامع فيكون أكثر استجابة، فالمعنى ارتبط بالواقع الملموس والحياة المحيطة بالمتلقي والبيئة التي يعيش فيها. فاختصر الطريق نحو انجاح الوظيفة التأثيرية للمرسل إليه عبر وظيفة المرسل الانفعالية.

1.1– مدلول النية في اللغة

 من ينظر في استعمالات الكلمة، يجد أنها تدور في تصاريفها على القصد. فيقال:” نوى الشيء ينويه نية.. وانتواه: قصده ..”[14].

 ويقال أيضا:” نواك الله بالخير قصدك به وأوصلك إليه”[15]. وقد يراد بها العزم[16].

2.1 – النية في الاصطلاح

ذهب الكثير من العلماء[17] إلى تعريف النية بمدلولها اللغوي، ومن هذا ما أشير به للفظ النية باعتبارها القصد إلى الشيء والعزيمة على فعله، ومنه أيضا، قصد الإنسان بقلبه ما يريده بفعله، وكذلك قصدك الشيء بقلبك وتحري الطلب منك له.

ويختزل إبن قيم الجوزية رحمه الله هذه التعاريف بقوله: النية هي القصد بعينه، إلا أنه بينها وبين القصد فرقين:

أولهما: أن القصد معلق بفعل الفاعل نفسه وغيره، والنية لا تتعلق إلا بفعل نفسه، فلا يتصور إن نوى الرجل فعل غيره، ويتصور أن يقصده ويريده، ومن هذه الزاوية يكون القصد أعم من النية.

ثانيهما: أن القصد لا يكون إلا بفعل مقدور يقصده الفاعل، وأما النية فينوي الإنسان ما يقدر عليه وما يعجز عنه. ويؤكد هذا القول أبن القيم في قوله: ” النية تتعلق بالمقدور عليه جوز عنه، بخلاف القصد والإرادة، فإنهما لا يتعلقان بالمعجوز عنه لا من فعله ولا من فعلة غيره”[18].

 وحتى لا نتيه وسط التحديد المفاهيمي للكلمة لأنها متعددة الاستعمال في أوجه مختلفة وحقول معرفية متباينة، وطالما رددت خاصة في الأقوال الشعبية المأثورة الدارجة، وغير بعيد العربية الفصحى منها قوله صلى الله عليه وسلم:” إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى”[19]، وأيضا ما عبر عنه في متن الحديث المنقول عن أنس بن مالك رضي الله عنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل أتى يستشيره: “بل اعقلها وتوكل”[20] وما فيه من حث على الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله، فالعبارة من وجهة نظرنا قد حققت المقدور عليه والمعجوز عنه في وظيفتها الجمالية ارتباطا بالرسالة والوصفية ارتباطا باللغة.

 2 تفكيك المعنى

يقول إبراهيم النظام: “يجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في غيره من الكلام، إيجاز اللفظ، إصابة المعنى، حسن التشبيه وجودة الكناية فهو نهاية البلاغة”[21].

 وفي كتاب العمدة عند ابن رشيق، سمي المثل بذلك لأنه:” ماثل لخاطر الإنسان أبدا يتأسى به، ويعظ ويأمر ويزجر، وفيه ثلاث خلال: إيجاز اللفظ، إصابة المعنى ، وحسن التشبيه”[22].

لنقف عند ما قيل في اختزال لمضمون التعريفين، الخصال الأربع المشكلة للمثل لم يكن للناخب المغربي ولو على سبيل التداول القدرة على التقيد بها وإتقانها وهو إبن الجالية الناطق باللغة الفرنسية ولغة دارجة ركيكة بعض الشيء، لكن الوعي بدرجة التأثير النفسي الذي من الممكن بلوغه بنقل رسالة مشفرة في شكل عبارة موجزة وسهلة الاستيعاب تتفق مع واقع المغاربة وتخضع لمنطقهم، كانت كفيلة بخلق تواصل تفاعلي لحظي ومستمر لما بعد انتهاء المونديال، بل ستظل العبارة حاضرة في القاموس الكروي وكأنها مستجدة، وستختزنها الذاكرة كتعبير تلقائي بطابع قصدي نحى نحو تسهيل المعنى وتحقيق أعلى درجات التأثير.

 الفقرة الثانية: الفعل الإنجازي (Acte illocutoire)

الفعل الإنجازي هو ما يؤديه الفعل اللفظي من معنى إضافي مع معناه الأصلي، وفي الخطاب الذي نحن بصدد الاشتغال عليه يتحقق المعنى الإضافي في إتيان كل ما هو مادي وتوجيهه نحو جمهور المتلقين سواء المباشرين أو المحتملين .

1- المتلقين (اللاعبين)

 من خارج المغرب وداخله، فراسة المدرب الذي يتقاسم مع جل اللاعبين النشأة بين دولتين وثقافتين غربية/عربية ، أوربية /إفريقية، أهلته لخوض تحدي الجمع بين الثقافات المتعددة وتوحيد الدوافع الخفية للاعبين المتشبعين بتنشئة الغرب ومحاولة التوفيق بينها وبين شعورهم بالانتماء للوطن الأم، ما عجز عن فهم معناه أغلب الناخبين الأجانب الذين تواتروا على تدريب الفريق الوطني منذ سنة 2004، أو بالأحرى لم يعيروه اهتماما، إذن، محاولة محو صورة العلاقات الرسمية وأجواء التوتر والتحكم حد الاستبعاد التي طبعت علاقة اللاعب بالناخب الأجنبي بعيدا عن التفكير في إحياء روابط العلاقات الانسانية، كانت دافعا للناخب الوطني لاستدراك الوضع من أجل تصحيحه واستمالة الفريق بحس المسؤولية العالي والجدية والشخصية القيادية، إلى جانب التوظيف الممنهج لعبارات شعبية، عكست ثقل وحمولة الموروث الثقافي الشعبي للمجتمع بكل تجلياته وأطيافه، وقاموس رياضي/كروي تفاعلي يشجع، يحث، يشحذ، ينتصر لكل العقبات، كلها مدخلات سيكولوجية حفزت اللاعبين على التجاوب الايجابي مع كل ما هو تراثي ومحلي ووطني يعبر عن الوطن الأم، وينتصر له. ولا يخفى على أحد الشعور الجمعي الذي يختلج كل واحد تجاه كلمة الوطن الكافية لصنع الملاحم وتحقيق المعجزات. وكما يقول: عبد الرحمان منيف[23]: ” قد لا تكون بلادنا أجمل البلدان، لأن هناك بالتأكيد بلدانا أجمل، ولكن في الأماكن الأخرى [تبقى] غريب وزائد، أما هنا إن كل ما تفعله ينبع من القلب ويصب في قلوب الآخرين وهذا الذي يقيم العلاقة بينك وبين كل ما حولك، لأن كل شيء هنا لك، التفاصيل الصغيرة التي تجعل الانسان يحس بالانتماء والارتباط والتواصل”.

– 2 تصنيف الفعل الإنجازي:

يمكن تصنيف الفعل الإنجازي للناخب المغربي ضمن عدة أفعال سبق لفيلسوف اللغة الإنجليزي “جون أستن” أن حددها على أساس قوتها الإنجازية في خمسة أصناف[24]، على النحو التالي:

أفعال الأحكام، أفعال السلوك، أفعال القرارات، أفعال التعهد وأخيرا أفعال الايضاح، فكيف تم توظيف هذه الأصناف في خطاب الناخب المغربي؟

عبر الناخب من خلال مجموعة من الألفاظ عن دوافع باطنية عكست شحنة إيجابية ترجمت في شكل سلوك التحدي( فعل السلوك)، “ديرو النية” وكأن لسان حاله يتعهد(فعل التعهد) بتحقيق الفوز. وكذلك لفظ “سير” بمعنى واصل واستمر كسلوك انفعالي يترجمه المدرب في توجيهه للأوامر وفي تشجيع اللاعبين.

الفعل الإنجازي داخل الملعب لم يخلُ من (أفعال التقرير ) كذلك، كخطة اللعب، تغيير اللاعبين، الإذن باللعب، تعيين من يلعب كلاعب رسمي ومن يبقى في الاحتياط.. طرد من لا يلتزم بقواعد اللعبة وغيره.

الفعل الإنجازي المرتبط (بالإيضاح) كان حاضرا هو الآخر في الخطاب الكروي على مستوى التصريحات الرسمية للصحافة والخرجات الإعلامية، عبر إبداء وشرح وجهة نظر الناخب واللاعبين في الخصم وفي المباراة، إنكار مغالطات الخصوم، تخطئتهم، تصحيح المعلومات وتوضيحها، الاعتراض على التدخلات الأجنبية، التعليق على الأهداف وركلات الجزاء وتدخلات الحكم…إلخ.

نخلص في إطار الحديث عن الفعل الإنجازي، أننا لم نخض في شكل النطق من خلال نظام الجملة أو النبرة، أو صيغة الفعل واقتصرنا على الفعل الأدائي فقط لأنه يعكس بشكل سلس اتجاه فعل الكلام وقوة مفعوله الإنجازي، على أساس أن نشير ضمن الفقرة الموالية لتأثير فعل الكلام والدارجة المغربية المصدرة من بلدان المهجر على الجمهور المغربي.

الفقرة الثالثة: الفعل التأثيري (Acte perlocutoire)

 الفعل التأثيري هو أثر الفعل الإنجازي، بمعنى أنه يرتبط بالمخاطَب الذي توجه إليه رسائل المتكلم بضمير المخاطِب، بغية إقناعه أو التأثير عليه، وإثارة انتباهه بالسلب أو الإيجاب. من هنا كانت الوظيفة التأثيرية هي المحددة للعلاقات الموجودة بين المرسل والمتلقي، الذي يتم إثارة انتباهه وإيقاظه عبر الترهيب أو الترغيب. وهذه الوظيفة ذاتية بامتياز ما دامت قائمة على الإقناع والتأثير.

إذن الخطاب سواء كان لفظيا أو غير لفظي، يتحول إلى رسالة يتبادلها الأطراف، فيساهمان في تحقيق التواصل المعرفي والجمالي، برسالة مسننة بشفرة لغوية يفككها المتلقي ويؤولها بلغته الواصفة[25]. وهنا سنستدعي الدلالة النسقية لحاجاتنا لها إلى جانب الدلالتين المباشرة الحرفية والايحائية المجازية الرمزية، فالدلالتين الأخيرتين لوحدهما لا تكفيان لكشف ما تخبئه اللغة في التعبير الضمني، وهذه مهمة الدلالة النسقية الكامنة في المضمر لا الوعي، وتحتاج لأدوات نقدية لكشفها لارتباطها بالعنصر الثقافي كإضافة على النظام التواصلي الجاكبسوني[26].

نركز هنا على اللغة من جانبها التأثيري باعتبار نتائجها وبكونها فعلا اجتماعيا لا مجرد مسار لغوي بحث، وكما يقول فيلسوف مدرسة فرنكفورت النقدية يورغن هابرماس فوظيفة الالتماس أو الوظيفة التأثيرية التي تكتسيها اللغة والتي تحدث في الحياة الاجتماعية، تقوم على خطاب عملي أساسه المصداقية والصدقية والمعقولية[27].

 وليتحلى الخطاب بهذه الصدقية وجب أن تتوفر فيه قيم أخلاقية وهي ما ميز فيها هابرماس بين مبدأين: الخطاب الخلقي والخطاب الأخلاقي، الأول يشمل مجال الحياة الخاصة ويبحث في كل ما هو جميل، والخطاب الثاني مجاله الفضاء العام ومجال الحياة المعاشة ويبحث في الحق وسيادة القانون. وضمن هذا المجال يجب أن تتوفر معايير منصفة يجب الاحتكام إليها للوصول إلى توافقات.

 الجمهور المتلقي بكل أطيافه، المتعطش للنصر والانتصار والفرح والمنغمس مع الحدث حد الثمالة، لا لشيء إلا حبا وتعاطفا مع ابنه وأبنائه، ومساندته/هم بعد ما قضى سنوات من التأرجح بين الآخر المخالف للثقافة، للعادات ،للدين، لأسلوب التفكير والأكثر من ذلك المفتقد لحس الانتماء للوطن، الغير المقاسم له البيئة والتراب بكل ما يزخرا به من معاني سيكولوجية، فحسب نظرية الحتمية الجغرافية يبقى الإنسان أينما حل أو ارتحل ابن بيئته، وله علاقة تبادلية بين كل عنصر من عناصرها[28].

وكذلك التراب وبعيد عن التعامل معه كقطعة من الأرض(المجال الفيزيقي) ،بل كمفهوم جغرافي وقانوني واجتماعي وأكثر من ذلك عاطفي، يحيل على المجال المورفولوجي الحاضن للمحتوى الاجتماعي (السكان)[29]، ووعاء لحسن التسيير والتدبير وتحمل المسؤولية وقوة القرار . وأنجع مجال لاستثمار كل ما هو مشترك من تاريخ وثقافة.

قس على ذلك، أن الثقافة هي الأخرى بما هي نتاج إنساني- يستفاد من مكتسبات تراكمه عبر الأجيال بواسطة قيم ورموز ومختلف أنماط الحياة الاجتماعية- فإنها تكتسب ويتم نقلها، وتحصل بالتعلم ويتداولها أفراد الجماعة، وتبرز هنا باعتبارها ذلك المجال الديني والأخلاقي والرمزي المشترك بين أعضاء الجماعة وتحصل بعمليات التواصل والتعارف والترابط، ومن خلالها يشعر الأشخاص فرادى وجماعات، بأنهم منتمون إلى وحدة تتجاوزهم يعبرون عنها باسم مجموعة، جمعية، جماعة ومجتمع”[30] .

وبدمج كل العناصر السياقية في هذا الموقف التواصلي نقر بأن فعل التواصل حقق وظيفته الإقناعية والإمتاعيه، عبر مؤشرات تجسدت في:

  • الاحتكاك التواصلي والتفاعلي عبر التغذية الراجعة أو العكسية التي أشرت على استحسان الخطاب، عبر ترديد عباراته التي أضحت لازمة سيتواتر الجمهور على استعمالها وربطها بهذا الحدث الكروي.
  • صيغ الأبنية اللغوية سواء الصريحة أو الضمنية، عكست الصدقية سواء على مستوى التلفظ عبر تطابق الفعل اللغوي مع معايير معترف بها لدى المجتمع. أو على مستوى ما قيل وعبر عنه بكل مصداقية بعيدا عن الكذب والتضليل.
  • المؤشر السياقي أو المجال الاجتماعي للفعل والمعرفة المشتركة والموحدة لكل مكونات عملية التخاطب. تحققت ضمن ثلاث محطات؛ الأولى استدعاء الناخب لعبارات الموروث الشعبي، الثانية إنجاز المعنى عبر تعبيرات كلامية وإشارات وتعابير إيحائية، ومواقف طريفة للشكل التواصلي الأبرز في المونديال الذي تخترق فيه الأم المشهد والسياق بحضورها المادي والمعنوي ومساندتها الروحية والعاطفية وتأثيثها لفضاءات ملعب قطر، الثالثة صياغة فعل تواصلي ملحمي في سياق مطبوع بتخطيط واع وتحضير مسبق ساهم فيه اللاعبون بحمولاتهم الفكرية المتنوعة والمنفتحة ومدرب مؤهل ومؤثر، برؤيته التخطيطية الاستباقية السليمة والبسيطة في طرحها الصعبة في تبنيها وإنجاحها. وبدعم جماهيري واسع، جسد في تشجيع وفرح العرب والمسلمين.

خاتمة

إن صنع الفرق لم يكن في العبارة وحدها، ولا في فريق بتشكيلة مغربية محضة، ولا بناخب مغربي، ولا في رغبة جمهور بخلق لحظة فرح وانتشاء بانتصار طال انتظاره، ولا في دعم وتعاطف وتشجيع شعوب عربية وفرحها بتقدم المنتخب المغربي، ولا في وصول المنتخب لمحطة كنا نستصعب بلوغها لأي دولة عربية، فالكرة والرياضة بصفة عامة في الأول والأخير، ما هي إلا نتاج لسياسات عمومية، ولسياسة عامة واستراتيجية للدولة، ولإرادة سياسية، ولتموقع الدولة ضمن خارطة الدول العظمى والمنتظم الدولي ودرجة ضغطها واحترام قراراتها.

لكن مع ذلك نُصرّ على فعالية الطاقة الداخلية الصادقة والمؤمنة بالتغيير، ونُصرّ على مخاطبة الذوات والنهل من الموروث الشعبي والمخيال الجماعي المتنوع في عمليات البناء والتعبير، ونصر على توظيف مفهوم النية ومفاهيم أخرى شريطة الاقتران بالعمل والجد والحزم والتحدي والصمود، كما نُصرّ على أهمية الوثوق فيما يمكن أن يصنعه الرأسمال اللا مادي بغض النظر عن الحواجز والإكراهات .

الباحثة: د. نجود مدراني

أكاديمية مغربية، دكتوراه في القانون العام والعلوم السياسية، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، جامعة الحسن الأول، سطات، المغرب


[1] – مقتطف من التقرير التركيبي للندوة الوطنية المنظمة يومي 15/16 مارس2011 ، بكلية الآداب والعلوم الانسانية – القنيطرة-، بإشراف رئاسة الجامعة. وتحت عنوان:” التواصل وتحليل الخطاب”.

[2] – ويعد من أبرز رواد هذا التيار “فيتغنشتاين Wittgenstien” في كتابه “بحوث فلسفيةPhilosophical Investigations”، و” رايلRyle ” في كتابه “مفهوم العقل Concept of Mind”، و” أوستينAustin”، في محاضراته التي نشرت في كتاب”How to do things with words”، كشهادة ميلاد حقيقة لنظرية الأفعال الكلامية”.

[3] – من أبرز رواد هذه النظرية “جون لوك” في نظريتة الأفكار الدهنية، ريتشارد وأوغدن من خلال النظرية التصورية كنظرية تحليلية لعناصر الدلالة المشار لها في مثلتهما المشهور. وعند الأصوليين فقد تبناها كل من الجويني وفخر الدين الرازي والزملكاني والقرطبي. للاستزادة في موضوع الدلالة التصورية يراجع:   – Jackendoff, Ray,Semantics and Cognition,( MIT Press,Cambrige,1983.

— Jackendoff, Ray,Precis of:Fondation of Language: Brain,Meaning, Grammar,Evolution,Oxford Univesity Press, 2002.

[4]– للاطلاع أكثر أنظر: محمد عبد الرحمان أحمد محمد:” لسانيات النص نشأتها ومفهومها وأسسها”، حولية كلية اللغة العربية بنين بجرجا، العدد/19، الجزء الثالث،2015 .

[5]– عمر بلخير:” مدخل إلى دراسة بعض الظواهر التداولية في اللغة العربية- الخطاب المسرحي نموذجا-“، إنسانيات، ع،14/15، ص من101 إلى125.

[6] – ترجع هذه النظرية إلى الفلاسفة التحليليين الإنجليز أمثال أوستين وتلميذه سيرل. ويعتبر جون أوستين مؤسسها ، وواضع المصطلح الذي تعرف به الآن في الدراسات الفلسفية واللغوية المعاصرة. وقد تمثل ذلك في المحاضرات الاثنا عشر التي ألقاها في جامعة هارفارد (Harvard) ونشرت سنة 1962في كتاب عنوانه”How to do think with words” وترجم إلى الفرنسية عام 1970 إلى “Quand dire cést faire”. يراجع بهذا الصدد:- واضح أحمد:” الخطاب التداولي في الموروث البلاغي العربي من القرن الثالث الهجري إلى القرن السابع الهجري”، أطروحة دكتوراه في اللسانيات، كلية الآداب واللغات والفنون، الجزائر، 2011-2012، ص 108:

[7] – يعتبر السياق هو العنصر الرابط بين مختلف النظريات والتوجهات التي شكلت ما نسميه التداولية، واختلاف زاوية النظر للسياق هو الذي يجعل تلك النظريات تختلف فيما بينها في إقرار ماهية التداولية؛ فمنهم من يرى أنها هي الأقوال التي تتحول إلى أفعال ذات صبغة وامتداد اجتماعيين بمجرد التلفظ بها وفق سياقات محددة، ومنهم من يلخص التداولية في دراسة الآثار التي تظهر في الخطاب؛ ومنهم من يلخصها في مجموعة من قوانين الخطاب. أو أحكام المخاطبة على حد تعبير الفيلسوف جرايس.

[8] -Orecchioni ,C.K: Enonciation de la subjectivité dans le language – paris ,Armand Colin,1980-P. 185 .

[9] – من الوظائف التي أضيفت فيما بعد إلى نموذج جاكبسون ذو الست وظائف، إلى جانب تغييرات أخرى لحقت بنظريات التواصل.

[10] – مقال بعنوان:” الأمثال الشعبية “، منشور على الرابط https:// m.marefa ; org: /، تاريخ الزيارة 15/12/ 2022.

[11] – المصدر نفسه.

[12] – الفارابي أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم:” ديوان الأدب”، تحقيق د. أحمد مختار عمر، الجزء الأول، 2003، ص:74.

[13] – المصدر السابق، منشور على الرابط https:// m.marefa ; org: /.

[14] – توفيق الواعي:” البدعة والمصالح المرسلة”، دار التراث، الكويت، الطبعة الأولى،1984.

[15] – عيسى البابي الحلبي:” بغية الوعاة للسيوطي”، الطبعة الأولى ، القاهرة، 1965.

[16] – كما ذكر في مؤلف المصباح المنير للعلامة أحمد بن محمد بن علي الفيومي، ص:631 .

[17] – ومنهم النووي والقرافي والخطابي وابن قيم الجوزية…وغيرهم.

[18] -عبود بن علي بن درع: “القصد والنية في الشريعة الإسلامية”، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، ع 48، ص 90من 184 إلى .

[19] – عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:” إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه”: رواه البخاري ومسلم في صحيحهما.

[20] – ورد في حديث روي عن أنس بن مالك الصحابي الجليل وعن غيره أيضا أن رجلا أتى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يطلب مشورته في أمر يخص موضوع التوكل على الله، سائلا إياه في أن يرسل ناقته ويتوكل أم يعقلها ويتوكل فأجابه رسول الله بالعبارة الآتية: “بل أعقلها وتوكل”. رواه ابن عدي في الكامل في الضعفاء، عن أنس بن مالك، ص:6/352.

[21] – محمد إبن قيم الجوزية: ” الأمثال في القران الكريم”، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت لبنان، 1981/1401، ص:33

[22] – أبن رشيق القيرواني:” العمدة”، تحقيق محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت،1/280 .

[23] – عبد الرحمان بن ابراهيم المنيف،( 2004-1933م) خبير اقتصادي وأديب وناقد حداثي سعودي، واحد من أهم أبرز الروائيين في القرن العشرين ومن كتاب اليسار العربي. ونسبت القولة أعلاه له بالإضافة إلى أقوال أخرى مأثورة عنه.

[24] – جمعان بن عبد الرحمان:” نظرية أفعال الكلام والنص”، مقال منشور على الرابط: https://takhatub.ahlamontada.comتاريخ النشر: 14/07/2010،تاريخ الزيارة: 17/12/2022.

[25] – رومان جاكبسون، أحد أبرز منظري التواصل، حدد ست وظائف لست عناصر: الوظيفة الجمالية للرسالة، الوظيفة الانفعالية للمرسل، والوظيفة التأثيرية للمرسل إليه والوظيفة المرجعية للمرجع والوظيفة الحفاظية للقناة والوظيفة الوصفية للقناة.

[26] – للاطلاع أكثر يراجع بهذا الصدد: – نجود مدراني: “من الاتصال إلى التواصل المؤسسي: النماذج والأنساق”، دراسات سياسية، منشورات المعهد المصري للدراسات، دجنبر،2020. وأيضاً: عبد الله الغدامي: النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية، المركز الثقافي العربي، بيروت- لبنان، ط. الأولى،2000.

[27] – تندرج هذه المبادئ ضمن الحالة المثالية للكلام والشروط الصافية لخطاب يحترم معايير الصدق الصارمة أو ما يعرف بجماعة التواصل غير المحدودة عند هابرماس. يراجع:- حسن المصدق:” هابرماس ومدرسة فرنكفورت”، منشورات الاختلاف ودار الأمان، ط. الأولى، ص:146.

[28] – نجود مدراني:” نسق التواصل المؤسسي بالمراكز الجهوية للاستثمار: الحصيلة والآفاق. دراسة ميدانية لمركز جهة الشاوية ورديغة 2010-2015 ، ص: 29.

[29] – – أحمد حضراني: “الحكامة الترابية وحقوق الإنسان الآليات التشاركية الجهوية”، دليل مرجعي، أنجز تحت إشراف المجلس الوطني لحقوق الإنسان والمعهد الجمهوري الدولي، 2017،ص:16-17.

[30] – عز الدين الخطابي:” دينامية العلاقة بين التقليد والتحديث”، افريقيا الشرق، 2015، ص، ص:54-53

Admin

مجلة علمية دولية محكمة، ربع سنوية، يتم النشر فيها باللغات (العربية، التركية، الإنجليزية، الفرنسية). تقوم على نشر الدراسات العلمية والأوراق البحثية وأوراق السياسات، وكذلك نشر عروض وملخصات رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه حول العلاقات الدولية، وفروعها الأساسية، وما يرتبط بها من علوم ومعارف بينية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى