أفق العلاقات الأوروبية – الأميركية: التحديات والمسارات

د. نادين الكحيل (لبنان)
أستاذ مشارك في العلوم السياسية، أكاديمية العلاقات الدولية
ملخص الدراسة:
تعززت العلاقات بين الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، من خلال دعم واشنطن لإعادة إعمار أوروبا عبر مشروع مارشال، حيث ارتكزت العلاقة بين الطرفين على عدة مستويات (سياسية، اقتصادية، أمنية)، وسعت أميركا إلى تعزيز الأمن الأوروبي من خلال تأسيس حلف شمال الأطلسي (الناتو) 1949، ودعم وحدة أوروبا عبر تشكيل الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى الشراكة الطويلة في مجال الطاقة بين الطرفين،حيث أصبحت الولايات المتحدة أكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا.
غير أنه، وبعد نهاية الحرب الباردة، انتهجت الولايات المتحدة استراتيجية “الشريك الخصم” بهدف إحكام سيطرتها على أوروبا. ومع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض للمرة الثانية (يناير 2025)، اتبع سياسة معادية تجاه أوروبا، تمثلت في خطاب تصعيدي، اتهم فيه أوروبا بالإضرار بمصالح واشنطن، وفرض رسوم جمركية إضافية على كل من أوروبا، والصين، والمكسيك، وكندا، كما سعى إلى التواصل مع روسيا للبدء بمفاوضات انهاء الحرب في أوكرانيا، مما شكل تهديداً فعلياً للعلاقات الأميركية – الأوروبية في ظل التغييرات الجيوسياسية، والتوجهات الأميركية الجديدة.
ووفقاً لبيانات هيئة الإحصاء الأميركية، بلغت قيمة صادرات الغاز الطبيعي المسال الأميركي إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2024 حوالي 12.73 مليار دولار، بانخفاض 26% عن العام السابق. وانخفض الحجم المصدر إلى أدنى مستوياته منذ عام 2021، وأمام هذا التهديد المباشر، وفي ظل التحديات الداخلية والخارجية التي تواجه الاتحاد الأوروبي، تشير التقديرات إلى أن التحدي الأبرز الذي يواجه أوروبا يتمثل في التمويل، في ظل مخاوف وخطر من انسحاب المظلة الأمنية الأميركية، حيث يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى استثمار إضافي يُقدَّر بحوالي 500 مليار يورو خلال العقد المقبل، لتعزيز الإنتاج العسكري وتلبية احتياجاته الدفاعية.
فمن المتوقع أن تكون التبعات الاقتصادية للضرائب الأميركية على الصلب والألمنيوم محدودة، ولكن الخطر الأساسي يكمن في حصول تصعيد مع اجراءات للرد الأوروبي وأخرى مضادة، ما سيزعزع استقرار حركة المبادلات التجارية في العالم، وبالتالي تهديد النظام المالي العالمي.
وقد انتهت الدراسة إلى أن الحرب التجارية ستكون مكلفة لجميع الاطراف، وأن التفاوض هو المحور الأساسي لتجنب الاثار المدمرة للحرب التجارية على النظام الاقتصاد العالمي، مع ضرورة تنويع مصادر الدعم للاتحاد الأوروبي عبر شراكات متعددة (مثال : التعاون مع دول الخليج).
وبالتالي، فإن الواقعية السياسية تعتبر الحوار الأميركي الأوروبي هو البوصلة التي ستحدد مستقبل العلاقات (الاقتصادية، السياسية، والامنية) بين الطرفين، كما تشكل هذه المرحلة فرصة لأوروبا لتعزيز قدراتها العسكرية، وتنويع شراكاتها التجارية، وتوسيع نطاق تأثيرها السياسي.
الكلمات المفتاحية: الرسوم الجمركية، الحرب التجارية، التهديدات الأميركية، الاتحاد الأوروبي.
مقدمة الدراسة:
ينبع اهتمام الولايات المتحدة الأميركية بأوروبا من إدراكها لكون القارة قد أصبحت بيئة هشة ومنهكة بعد الحرب العالمية الثانية، ما جعلها عرضة لسيطرة الأحزاب الشيوعية، نتيجة انتشار الفقر والبطالة والجوع. وهو ما كانت تخشاه الإدارة الأميركية، إذ كانت ترى في ذلك تهديداً جدياً لمصالحها ولمخاطر المد السوفيتي المتصاعد. لذلك، سعت واشنطن إلى احتضان أوروبا وتقديم المساعدات اللازمة لنهضتها، كما أسّست حلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 1949 لتوفير الحماية الاستراتيجية وتعزيز الأمن الأوروبي، ودعمت أيضاً مسار وحدة أوروبا عبر المساهمة في تشكيل الاتحاد الأوروبي.
وارتكزت العلاقة بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية على عدّة مستويات، أهمها:
المستوى السياسي: الذي جاء بناءً على المشكلات السياسية التي هددت مستقبل القارة الأوروبية، بعد أن كانت الدول الأوروبية تحاول من خلال ذلك العودة إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية.
المستوى الاقتصادي: واجهت الدول الأوروبية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية معضلات اجتماعية واقتصادية، تمثلت في البطالة، والتضخم، وانهيار مستويات الإنتاج، وتحطّم البنى التحتية، التي لم تعد قادرة في تلك المرحلة على صدّ المدّ الشيوعي.
المستوى الأمني: وكان من أخطر التحديات التي واجهت دول أوروبا الغربية، التي عانت من تدمير قدراتها العسكرية، فضلاً عن الضعف السياسي والاقتصادي.
وعملت الولايات المتحدة على نشر أفكار السوق الحر والأفكار الليبرالية حتى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وشكّل التحالف الأميركي–الأوروبي منذ عام 1945 التحالف الأبرز الذي ساد السياسة العالمية خلال مرحلة الحرب الباردة، وكان له الكلمة العليا في تحديد شكل النظام العالمي، وإرساء أسس المؤسسات الدولية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. كما شكّل هذا التحالف القوة الدافعة التي روّجت لمبادئ النظام الديمقراطي الليبرالي العالمي.
وبعد انتهاء الحرب الباردة، تبنّت الولايات المتحدة استراتيجية جديدة في التعامل مع الاتحاد الأوروبي بصفته “شريكًا خصمًا”؛ بهدف استمرار سيطرتها على أوروبا، وخاض الرئيس الأميركي دونالد ترامب انتخابات عام 2016 تحت شعار “أميركا أولاً”، وكان واضحًا تمامًا في توجهاته ومواقفه الانعزالية، وغير المناصرة للتجارة الحرة. كما انتقد الدول الأوروبية على عدم إسهامها المنصف في ميزانية حلف الناتو، وطالب ألمانيا برفع إنفاقها الدفاعي إلى 2% من ناتجها المحلي الإجمالي. كما ادّعى ترامب أن الاتحاد الأوروبي لم يُنشأ إلا لاستغلال الولايات المتحدة والاستفادة منها، ولهذا السبب أيّد خروج بريطانيا من هذا الاتحاد.
ومع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وتولّيه رئاسة الولايات المتحدة للمرة الثانية في عام 2025، اتّبع سياسة معادية تجاه أوروبا، من خلال خطاب هجومي اعتبر فيه أن الاتحاد الأوروبي يُلحق الضرر ببلاده، وأقدم على اتخاذ إجراءات عقابية تمثّلت في فرض رسوم جمركية على كلٍّ من أوروبا، والصين، والمكسيك، وكندا.
وفي ظل إدارة ترامب تشهد العلاقات الأميركية-الأوروبية توترًا متصاعدًا في ظل التغييرات الجيوسياسية، والتوجهات الأميركية، والتصريحات الصادرة عن الرئيس دونالد ترامب، والتي تُشكّل تهديدًا فعليًا للاتحاد الأوروبي، وذلك على الرغم من الترابط الاقتصادي العميق بين الطرفين.
وانطلاقًا من نظرية المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي “التحدي والاستجابة”، التي تُركّز على أن: “الأمم التي تتعرض للمخاطر الكبرى، ويكون توازن القوى في غير مصلحتها، تعود إلى مخزونها وإرثها الحضاري في محاولة لاستنهاض قدرتها على مواجهة التحدي”، تبرز عدة تساؤلات، من بينها: هل ستتمكن أوروبا من تعزيز استقلالها الدفاعي في ظل التحديات الداخلية والتحولات الدولية التي تواجهها؟ وهل سينفذ الرئيس الأميركي دونالد ترامب تهديداته فيما يتعلق بأوروبا؟ وكيف سيرد الاتحاد الأوروبي على التهديدات الأميركية؟ وما هي السيناريوهات المستقبلية لمسار العلاقات الأوروبية الأميركية.
التوثيق: مجلة العلاقات الدولية، أكاديمية العلاقات الدولية، تركيا، العدد الثامن، يوليو/ تموز 2025، ص ص 73 – 105.